الحمد لله الذي خلق الزمان وفضّل بعضه على بعض فخصّ بعض الشّهور والأيام والليالي بمزايا وفضائل يُعظم فيها الأجر ،
ويَكثر الفضل رحمة منه بالعباد ليكون ذلك عْوناً لهم على الزيادة في العمل الصالح والرغبة في الطاعة ، وتجديد النشاط ليحظى المسلم بنصيب وافر من الثواب ، فيتأهب للموت قبل قدومه ويتزود ليوم المعاد .
ومن فوائد مواسم الطاعة سدّ الخلل واستدراك النقص وتعويض ما فات ، وما من موسم من هذه المواسم الفاضلة إلا ولله تعالى فيه وظيفة من وظائف الطاعة يتقرب بها العباد إليه ، ولله تعالى فيها لطيفة من لطائف نفحاته يصيب بها من يشاء بفضله ورحمته ، فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات وتقرب فيها إلى مولاه بما فيها من طاعات فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات ، فيسعد بها سعادة يأمن بعدها من النار وما فيها من اللفحات ] . ابن رجب في اللطائف ص : 40
فهذه العشر المباركة - العشر الأول من ذي الحجة - قد أظلتنا بخيرها وشرف زمانها الذي شرفه الله على سائر الأزمان فكانت من خير أيام الدنيا , ?عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله منه في هذه الأيام العشر . قالوا ولا الجهاد في سبيل الله !! قال : ولا الجهاد في سبيل الله ، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء أخرجه البخاري .
وعنه أيضاً رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما من عمل أزكى عند الله عز وجل ، ولا أعظم أجراً من خير يعمله في عشر الأضحى قيل : ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال : ولا الجهاد في سبيل الله عز وجل إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء رواه الدارمي 1/357 وإسناده حسن كما في الإرواء 3/398 .
بل وأقسم الله بها في كتابه العزيز فقال جل من قائل عليما : والفجر وليالٍ عشر والشفع والوتر وجمهور المفسرين على أنها عشر ذي الحجة .
قال ابن كثير في تفسيره : فهذه النصوص وغيرها تدلّ على أنّ هذه العشر أفضل من سائر أيام السنة من غير استثناء شيء منها ، حتى العشر الأواخر من رمضان . ولكنّ ليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل لاشتمالها على ليلة القدر ، التي هي خير من ألف شهر ، وبهذا يجتمع شمل الأدلة .
إذا علم هذا فينبغي لكل عاقل حصيف يبغي لنفسه العز والسؤدد والخير والفلاح أن يتاجر مع ربه ومولاه بالأعمال الصالحة وان يستثمر شرف زمانه ومضاعفة الأجر فيه قبل فواته وضياعه عليه , حتى لا يندم على ذلك ثم يقول رب ارجعون لعلى أعمل صالحا فيما تركت فيأتيه الجواب كلا .
فعلى المسلم أن يضرب من كل عمل صالح بسهم ولا يفوتن على نفسه شيء من الخير.
أيها المبارك.. اعلم أن من اعظم ما تستغل به هذه العشر المباركة الصيام، فهو عمل حبيب إلى الله , قال الله تعالى في الحديث القدسي : كل عمل بني آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به أخرجه البخاري.
واستحب كثير من أهل العلم صيام أيامه، وقد كان أبن عمر رضي الله عنهما ممن يصومها .
أسوة بالنبي عليه الصلاة والسلام فقد روت أم المؤمنين حفصة بنت عمر رضي الله عنها : كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة ويوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر.. رواه أبو داود وصححه الألباني رحمه الله.
كما أن فيه يوم عرفة الذي هو من أفضل الأيام وصيامه سنة مؤكدة يكفر الله فيه السيئات ويرفع الله به الدرجات كما جاء في صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده .
ومن الأعمال الفاضلة أيضا في هذه العشر : استحباب الإكثار من الذكر والدعاء فقد دل عليه قول الله تعالى : ويذكروا أسم الله في أيام معلومات الحج 26 وجمهور المفسرين على أن الأيام المعلومات هي أيام عشر ذي الحجة.
وجاء في مسند الإمام أحمد رحمه الله : عن أبن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد .
فيسن التكبير والتحميد والتهليل والتسبيح أيام العشر . والجهر بذلك في المساجد والمنازل والطرقات وكل موضع يجوز فيه ذكر الله إظهاراً للعبادة ، وإعلاناً بتعظيم الله تعالى ويجهر به الرجال وتخفيه النساء.
وصفة التكبير : هي قول الله أكبر الله أكبر لا اله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد . كما وردت له صفات أخرى .
وعبادة التكبير من السنن المهجورة التي هجرها كثير من الناس في هذه الأزمان والله المستعان وقد كان سلفنا الأوائل يجهرون في التكبير في هذه العشر ويجتهدون في ذلك غاية الاجتهاد، فقد ?وى مجاهد قال : كان ابن عمر ?أبو هريرة يأتيان السوق أيام العشر فيكبران ويكبر الناس معهما، ولا يأتيان لشيء إلا لذلك.
والتكبير في هذه العشر منه ما هو مطلق ومقيد، فالمطلق ما ذكر آنفا، وأما المقيد فيكون بأدبار الصلوات في حق غير المحرم بالحج يبدأ من صلاة الفجر في يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق وهو اليوم الثالث عشر من ذي الحجة، وأما المحرم فيبتدأ التكبير المقيد في حقه من صلاة الظهر من يوم النحر إلى عصر آخر أيام التشريق ، قال تعالى ? اذكروا الله في أيام معدودات البقرة 203 قال عطاء رحمه الله : أيام التشريق هي يوم النحر وثلاثة أيام بعده.
وذكر الشيخ ابن جبرين حفظه الله : ولا يجوز التكبير الجماعي وهو الذي يجتمع فيه جماعة على التلفظ بصوت واحد ، حيث لم ينقل ذلك عن السلف وإنما السنة أن يكبر كل واحد بمفرده ، وهذا في جميع الأذكار والأدعية إلا أن يكون جاهلاً فله أن يلقن من غيره حتى يتعلم ، ويجوز الذكر بما تيسر من أنواع التكبير والتحميد والتسبيح ، وسائر الأدعية المشروعة اهـ .
وكذلك على المسلم الاجتهاد بالدعاء خاصة في يوم عرفة فقد جاء عند الترمذي خير الدعاء دعاء يوم عرفة وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي : لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير .
ومن الأعمال الفاضلة في هذه العشر : الحج فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : مَن حجَّ لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه . رواه البخاري ومسلم
وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام قوله : ( الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ).
ومن الأعمال المستحبة أيضا في هذه العشر: الأضحية قال تعالى فصل لربك وانحر الكوثر , روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما عمل ابن آدم يوم النحر عملا أحب إلى الله من إراقة دم, وإنه ليؤتى يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها ,وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض , فطيبوا بها نفساً رواه ابن ماجة.
وروى مسلم رحمه الله وغيره عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضّحي فليمسك عن شعره وأظفاره وفي رواية ( فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره حتى يضحي ) .
أيها الأخ المبارك …. إن إدراك هذا العشر نعمة عظيمة من نعم الله تعالى على العبد ، يقدّرها حق قدرها الصالحون المشمّرون , وواجب المسلم استشعار هذه النعمة ، واغتنام هذه الفرصة بالتوبة والاستغفار ?
الاجتهاد في أنواع العبادات ، وذلك بأن يخص هذا العشر بمزيد من العناية ، وأن يجاهد نفسه بالطاعة , وإن من فضل الله تعالى على عباده كثرة طرق الخيرات ، وتنوع سبل الطاعات ليدوم نشاط المسلم ويبقى ملازماً لعبادة مولاه
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال